الجمعة، 22 ديسمبر 2017

الرَّدُّ على عبارة: صلّوا على من بكى شوقا للقياكم.

الرَّدُّ على عبارة: صلّوا على من بكى شوقا للقياكم.




أما بعد:



فإنَّه تنتشر في وسائل التواصل خصوصًا ليلة الجمعة ويوم الجمعة هذه العبارة:
صلو على من بكى شوقاً لـ لقياكم.)
والرد على هذه العبارة ونحوها:
إنَّه لم يثبت عن النَّبيِّﷺ لفظ الاشتياق والبكاء، وإنما ثبت عنه ﷺ أنَّه ودّ لو رأى إخوانه.
فأما لفظ الاشتياق فجاء بأسانيد لم تصح كما عند ابن عساكر في تاريخه والقشيري في رسالته وغيرهما، فهي أسانيد فيها من هو متهم بالكذب.
وأما لفظ البكاء فلم يرد عنهﷺ.

وأما الثابت عنهﷺ فهو مارواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ :
أتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ . وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا . قَالُوا : أَوَ لَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ . فَقَالُوا : كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ، أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ ، أُنَادِيهِمْ : أَلا هَلُمَّ ، فَيُقَالُ : إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ ، فَأَقُولُ : سُحْقًا سُحْقًا.

فهذا الثابت عنهﷺ وليس فيه أنَّه بكى، وليس فيه لفظ الاشتياق.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبه:
مبارك بن خليفة بن محمد العساف.

الجمعة ٤ / ٤ / ١٤٣٩ هـ


الأحد، 17 ديسمبر 2017

الأرزاق تستجلب بالطاعات والمراضي، لا بالسيئات والمعاصي.

الأرزاق تستجلب بالطاعات والمراضي، لا بالسيئات والمعاصي.


الحمد لله القائل: ﴿وَما مِن دابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلّا عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا﴾، والصلاة والسلام على نبيه محمد القائل: لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلُ رِزْقهَا.

أما بعد.
فإنَّ من المتقرر اليقيني أنَّ الله تكفل برزق مخلوقاته، وأمر بالتوكل عليه، وبذل الأسباب في طلب الرزق، وشرع طرق الكسب الحلال ووعد الإثابة عليه، ومنع طرق الكسب الحرام وتوعد العقوبة عليه.
ولذلك كان العبد مسؤلًا يوم القيامة عن ماله كيف كسبه، وفيما أنفقه؟
فليعد العبد لهذين السؤالين جوابًا، وليكن الجواب صوابًا.
عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن [أربع]: عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه))؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم.

وعليه فإنَّ الإنسان مأمور بأكل الحلال الطيب، وتحصيله بالكسب المشروع، واستجلابه بالتقوى والمراضي، لا بالسيئات والمعاصي.
فإن التقوى سبب الخيرات، والمعاصي سبب الأزمات والنكبات.
وهذا هو قول من يؤمن بالله حق الإيمان، ويؤمن بوعد الله - عزَّ وجلَّ - لعباده إن اتقوه أن يرزقهم ويفتح عليهم من بركاته، أما أهل النفاق والشك والريب ومن تبعهم، فإنَّهم يؤمنون بوعد الشيطان وأتباعه، ويخافون ما يُخوّفهم به من الفقر، فيستجلبون الأرزاق بالمعاصي، ويجعلون فعل المنكرات وأكل ثمنها من وسائل الكسب!
﴿الشَّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وَفَضلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٨]
وقد حاول أهل الزندقة والنفاق، وأهل الفسق والانحراف، جرَّ المجتمع إلى الإيمان بوعد الشيطان (الفقر) وتشريعهم جلب المال عبر الطرق المحرمة، من أجل تطبيعهم على ذلك!
ومن ذلك: خروج بعض الكتّاب والصحفيين إلى تقرير أن دور السينما، ودخول النساء الملاعب، والمكوس، وغيرها من المنكرات، هي سبب رفع الاقتصاد، وتنمية المال!
نعوذ بالله من حالهم، ونبرأ إليه من مقالهم.
أفلا يعلم هؤلاء الذين ينادون بالكسب المحرم، أن أزّمة الأمور بيد الله، يخفض ويرفع، ويبسط ويقبض، إذا شاء عاقبهم، وسلبهم ما أنعم به عليهم، بسبب ذنوبهم ومعاصيهم!!!
فوالله العظيم لو آمنوا بالله حق الإيمان، لصدَّقوا وعملوا بوعده سبحانه:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا ۝ وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢-٣]
فتقوى الله سبب الأرزاق، ونزول الخيرات والبركات.
قال سبحانه:
﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ [الأعراف: ٩٦]
فالإيمان والتقوى تُفتح بسببهما بركات السماء والأرض، وعكس ذلك سبب العذاب والهلاك والدمار.
فأين هؤلاء من هذه الآيات العظيمة؟!

فالمعاصي سبب الحرمان، وطريق الخسران، ولنا فيما حصل لليهود عبرة، فالله حرّم عليهم الطيبات بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وعندنا من ينادي بالمعاصي جلبًا للأرزاق!!! فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
قال تعالى:
﴿فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذينَ هادوا حَرَّمنا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبيلِ اللَّهِ كَثيرًا ۝ وَأَخذِهِمُ الرِّبا وَقَد نُهوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموالَ النّاسِ بِالباطِلِ ﴾ [النساء: ١٦٠-١٦١]
حُرِّمت عليهم طيبات بسبب:
              صدهم عن سبيل الله.
              أخذهم الربا.
              أكل أموال الناس بالباطل.              فهي ذنوب وسيئات، حرمتهم أكل الطيبات.                                          
فهل يعقل هؤلاء؟؟؟

وقال سبحانه:
﴿وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيها لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعاقِبَةُ لِلتَّقوى﴾ [طه: ١٣٢]
قال ابن كثير - رحمه الله -:
يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب. )
قلتُ: فدّل ذلك على أنَّ الأرزاق تُستجلب بالمراضي لا بالمنكرات والمعاصي.

ولما خاف من خاف من هلاك التجارة إذا مُنع المشركون من المسجد الحرام كما في قوله تعالى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرامَ بَعدَ عامِهِم هذا﴾
أنزل الله قوله:
 ﴿وَإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنيكُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ حَكيمٌ﴾ [التوبة: ٢٨]
قال ابن كثير - رحمه الله -:
قال محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فنزلت: ﴿وَإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنيكُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ حَكيمٌ﴾ )
وقال ابن العربي - رحمه الله - في أحكام القرآن:
المعنى: إذا خفتم الفقر بانقطاع مادَّة المشركين عنكم بالتجارة التي كانوا يجلبونها فإن الله يعوضكم عنها. )

قلتُ: فالله عزَّ وجلَّ عندما أمر بمنع المشركين من دخول الحرم، وخاف من خاف من انقطاع السوق، وهلاك التجارة، وحصول العَيْلة وهي: (الفقر)، طمأنهم بأنه سيرزقهم من فضله، فعوضهم بأخذ الجزية، ونصرهم على القوم الكافرين؛ وظهر دينه على الناس أجمعين،
فحصلت لهم الخيرات والبركات.
وفي هذا دلالة واضحة أن الواجب علينا إلتزام شرع الله، والله بفضله وكرمه يجود علينا من واسع رزقه.
وأن لا نخاف من نزول الاقتصاد إذا طبقنا شرعه، فالأرزاق من ميراث التقوى.

وقد جاء في السنَّة النبويَّة ما يؤكد المعاني السابقة، بأن الأرزاق تُستجلب بالطاعات والمراضي، لا بالمنكرات والمعاصي.
روى ابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول اللهﷺقال : " لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب، أخذ الحلال وترك الحرام."
وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللهﷺ: " يا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم " رواه ابن ماجه، واللفظ له، والحاكم، وقال: على شرط مسلم .
وأخرج الحاكم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله ﷺقال : ليس من عمل يقرب من الجنة إلا وقد أمرتكم به، ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه ، فلا يستبطئن أحد منكم رزقه، فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه، فلا يطلبه بمعصية الله تعالى، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته.)
فهذه الأحاديث عظيمة فيها:
أن الرزق مكتوب مقدّر.
وأن التقوى سبب الأرزاق.
وأن الإنسان لا يستبطئ الرزق فيستجلبه بالمحرمات.


وليعلم من يحاد الله ورسوله، بترويجه للكسب المحرم، ويجعله من أسباب ارتفاع الاقتصاد، أن الكسب الحرام مانع من قبول الصدقة، قال رسول الله ﷺ: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا)
رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
ومانع من قبول الدعاء، جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق:
ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له.)

وأنه - الكسب الحرام - ممحوق البركة في الدنيا، ومن أمثلة ذلك:
قال تعالى عن الربا - وهو كسب محرم -:
﴿يَمحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُربِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثيمٍ﴾ [البقرة: ٢٧٦]
وقال النبيﷺ:(البيِّعانِ بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما.) متفق عليه من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -.
وقال النبيﷺ: (اليمين الفاجرة مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقٌةٌ للكسب)
رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقٌةٌ للبركة.)
رواه البخاري ومسلم.

فهذه أمثلة، وإلا فإن الكسب المحرم ممحوق البركة بكل صوره.

وهو موجب العذاب في الآخرة: قالﷺ:(لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ) رواه الترمذي من حديث كعب بن عجرة وحسنه، وصححه الألباني.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
(الطَّعام يُخَالِطُ البدن وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ منه فيصير مادَّةً وَعُنْصُرًا له، فإذا كان خبيثًا صار البدن خبيثًا فَيستوجب النّار؛ ولهذا قَالَ النَّبِيُّﷺ: "كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى به."
والجنة طيِّبة لا يدخلها إلا طيّبٌ. انتهى .)
(مجموع الفتاوى ٥٤١ / ٢١)
فالكسب الحرام خبيث مؤثر على الفرد والمجتمع معنويا وحسيا في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

وأختم هذه الرسالة المختصرة لمن يقول: إنه حصلت فوائد مالية، ولم تحل العقوبات، بكلام عظيم للعلامة العثيمين - رحمه الله - في خطبة له بعنوان: ماذا تسبب المعاصي حيث قال:

إنَّ كثيرًا من النَّاس يشك أو يتشكك في كون المعاصي سببًا للمصائب وذلك لضعف إيمانه وقلة تدبره لكتاب الله عز وجل، وإني أتلو على هذا وأمثاله قول الله عز وجل: ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِن كَذَّبوا فَأَخَذناهُم بِما كانوا يَكسِبونَ ۝ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا بَياتًا وَهُم نائِمونَ ۝ أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا ضُحًى وَهُم يَلعَبونَ ۝ أَفَأَمِنوا مَكرَ اللَّهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الخاسِرونَ﴾ [الأعراف: ٩٦-٩٩]
قال بعض السلف: إذا رأيت الله ينعم على شخص ورأيت هذا الشخص متماديا في معصيته، فاعلم أن ذلك من مكر الله به، وأنه داخل في قوله تعالى :﴿سَنَستَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعلَمونَ ۝ وَأُملي لَهُم إِنَّ كَيدي مَتينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٢-١٨٣]
أيها المسلمون، يا عباد الله: والله إن المعاصي لتؤثر في أمن البلاد وتؤثر في رخائها واقتصادها وتؤثر في قلوب الشعب. انتهى)
قلتُ: ولكن أكثرهم لايعقلون!

فيا من يؤمن بقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتينُ﴾ [الذاريات: ٥٨]
صدِّق بوعده سبحانه:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا ۝ وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢-٣]
ولا تلتفت إلى وعد الشيطان وحزبه:
﴿الشَّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشاءِ﴾
فبهذا تحل البركات، وتتنزل الخيرات.
فالمراضي سبيل قويم، والمعاصي طريق وخيم.
فهذا ماتيسر كتابته في هذه الرسالة المختصرة، قاصدا بها التذكرة، والخروج من معرة الكتمان الخاسرة.

فالَّلهُمَّ اغْنِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكِ، وَبِفَضْلِكَ عَمَنْ سِوَاك.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِنا دِينِنا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشِنا، وَأَصْلِحْ لِنا آخِرَتِنا الَّتِي فِيهَا مَعَادِنا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبه:
مبارك بن خليفة بن محمد العساف.

الأحد ٢٩ / ٣ / ١٤٣٩هـ

الجمعة، 8 ديسمبر 2017

إفادة الفضلاء، بلطائف ابن رجب عن فصل الشتاء.

إفادة الفضلاء، بلطائف ابن رجب عن فصل الشتاء. 



أما بعد.

فإنَّ من آيات الله الدَّالة على ربوبيته، واستحقاقه للعبادة، تغيّر الأحوال، وتنوّع الفصول، وفي كل شيءٍ له آيةٌ... تدل على أنَّه واحد.
وفي هذه الرسالة جمعتُ فوائد مختصرة عن الشتاء من (المجلس الثالث: ذكر فصل الشتاء) من كتاب الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: (لطائف المعارف، فيما لمواسم العام من الوظائف.)
وقد جمعتُها ليعم نفعها، وينتشر خيرها، رجاء غنم الثواب، والسلامة من غرم العقاب.
وقد أنقل بعض الفوائد مُلخصة، وقد أعلق يسيرًا حين أرى المصلحة.
وهذه هي الفوائد بين يديك أيها القارئ الكريم.

١ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: الشتاء ربيع المؤمن:
خرّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبيﷺ
قال: الشتاء ربيع المؤمن. وخرجه البيهقي وغيره وزاد فيه: طال ليلُه فقامه، وقصر نهارُه فصامه.

قلتُ: هذا الحديث مختلف في ثبوته فمنهم من حسنه كالهيثمي في مجمع الزوائد، ومنهم من ضعفه كالألباني.
ولكن معناه صحيح، وهو مروي بالمعنى، وبألفاظ قريبة، عن غير واحد من السلف.

قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنَّه يرتع فيه  في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه؛ كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات.


٢- قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
فإنَّ المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كُلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإنَّ نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام.
وفي المسند والترمذي عن النبي ﷺ قال: الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة.
وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء.
ومعنى كونها غنيمة باردة أنَّها حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوًا صفوًا بغير كلفة.

قلتُ: الحديث السابق صححه الألباني من حديث عامر بن مسعود.

٣ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النَّفسُ حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن، وقد أخذت نفسُه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه، مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه، وراحة بدنه.

٤ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
ومن كلام يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.

ويروى عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: قال: مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.
وروي عنه مرفوعا ولا يصح رفعه.

وعن الحسن قال: نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه.

وعن عبيد بن عمير أنَّه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا.


٥ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف.


٦ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
القيام في ليل الشتاء يشق على النفوس من وجهين:
أحدهما: من جهة تألم النَّفس بالقيام من الفراش في شدة البرد.
والثاني: بما يحصل إسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم.
قلتُ: وفي زماننا قد قلّ التألم من شدة البرد داخل البيوت، فيستطيع القيام في دفء مكان، وإسباغ وضوء بلا كلفة، لوجود سخانات تسخن الماء، فلم يبقَ سوى العجز والكسل، والله المستعان؛ فالَّلهم إنَّا نعوذ بك من العجز والكسل، ونسألك السداد في العمل


٧ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
وإسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال.

٨ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
إسباغ الوضوء في شدة البرد من أعلى خصال الإيمان.


٩ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
كان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل: يافلان، ويا فلان، ويا فلان، قوموا فتوضؤوا وصلوا هذا الليل، وصيام هذا النهار أهون من شرب الصديد ومقطعات الحديد غدا في النار، الوحا الوحا النجا النجا.


١٠ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
يشرع دفع أذاه - البرد - بما يدفعه من لباس وغيره، وقد امتن الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام وأوبارها وأشعارها مافيه دفء لهم؛ قال تعالى: ﴿وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ وَمَنافِعُ وَمِنها تَأكُلونَ
وقال تعالى:
﴿وَمِن أَصوافِها وَأَوبارِها وَأَشعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حينٍ﴾.

١١ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا حضر الشتاء تعاهدهم، وكتب لهم بالوصية إنَّ الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإنَّ البرد عدو، سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه.

قال ابن رجب معلِّقًا:
وإنَّما كان يكتب عمر إلى أهل الشام لما فتحت في زمانه، فكان يخشى على من بها من الصحابة وغيرهم ممن لم يكن له عهدٌ بالبرد أن يتأذى ببرد الشام، وذلك من تمام نصيحته، وحسن نظره، وشفقته وحياطته لرعيته.


١٢ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
ليس المأمور به أن يتقي البرد حتى لا يصيبه منه شيءٌ بالكلية، فإنَّ ذلك يضر أيضًا؛ وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد بالكلية حتى لا يحس بهما بدنه، فتلف باطنه، وتعجل موته.
فإنَّ الله بحكمته جعل الحر والبرد في الدنيا لمصالح عباده، فالحر لتحلل الأخلاط، والبرد لجمودها، فمتى لم يصب الأبدان شيءٌ من الحر والبرد تعجل فسادها، ولكن المأمور به اتقاء ما يؤذي البدن من الحر المؤذي والبرد المؤذي، المعدودان من جملة أعداء بني آدم.

قلتُ: وهذه فائدة طبِّيَّة مهمَّة، وقد ذكر نحوها غير واحد من أهل العلم وأهل الخبرة.

١٣ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
قال بعض السلف: إنَّ الله وصف الجنة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء، فقال:
﴿في سِدرٍ مَخضودٍ ۝ وَطَلحٍ مَنضودٍ ۝ وَظِلٍّ مَمدودٍ ۝ وَماءٍ مَسكوبٍ ۝ وَفاكِهَةٍ كَثيرَةٍ﴾.
وقد قال الله تعالى في صفة الجنة: ﴿مُتَّكِئينَ فيها عَلَى الأَرائِكِ لا يَرَونَ فيها شَمسًا وَلا زَمهَريرًا﴾ فنفى عنهم شدة الحر والبرد.
قال قتادة :علِم الله أنَّ شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعًا.


١٤ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
وقال بعض السلف: البرد عدو الدين، يشير إلى أنه يُفتّر عن كثير من الأعمال، ويثبط عنها، فتكسل النفوس بذلك، وقال بعضهم: خلقت القلوب من طين، فهي تلين في الشتاء كما يلين الطين فيه.

قلتُ: قد يُشكل تسمية الشتاء ربيعًا لما فيه من الطاعات، وتسميته عدوا للدين لتفتيره عن العبادات، ولكن الجمع بينهما:
أن الله عز وجل جعل الشتاء ربيعًا للمؤمن الذي جدّ واستغل قصر النهار وطول الليل، ولم يمنعه وجود بعض المشاق في الشتاء عن القيام بما أحب الله، وهذا لا ينافي كون الشتاء مفتّرا لمن ركن إلى برودته، واستسلم لبعض مشقته، فالنفوس على حسب مايعودها عليه أصحابها. 

١٥ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
الإيثار في الشتاء للفقراء بما يدفع عنهم البرد له فضل عظيم.
خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد فرأى رجلًا عاريًا فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض الشام في منامه أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه، فقدم المدينة فقال: دلوني على صفوان، فأتاه فقص عليه ما رأى.)

قلتُ: والمنامات لا تُبنى عليها أحكام، ولكنَّها مبشّرات مؤنّسات.


١٦ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
ومن فضائل الشتاء أنَّه يذكر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها، وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيﷺ قال: إذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم! اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم: إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته، قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده.)
قلتُ: هذا الحديث ضعفه السخاوي والعجلوني، وقال الألباني: منكر.


١٧ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
في الحديث الصحيح عن النبيﷺ: إنّ لجهنم نفسين، نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فأشد ماتجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ماتجدون من الحر من سمومها.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -قال: يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر.

١٨ - قال ابن رجب - رحمه الله -:
قال تعالى: ﴿هذا فَليَذوقوهُ حَميمٌ وَغَسّاقٌ
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده، وقال مجاهد - رحمه الله -: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده، وقيل: إن الغساق: البارد المنتن؛ أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله وكرمه.

١٩ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
يامن تتلى عليه أوصاف جهنم ويشاهد تنفُّسها كل عام حتى يحس به ويتألم، وهو مُصِرٌّ  على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمام من يندم، ألك صبّرٌ على سعيرها وزمهريرها؟ قل وتكلم، ماكان صلاحك يرجى والله أعلم.

كم يكون الشتاء ثم المصيف
وربيعٌ يمضي ويأتي الخريف
وارتحال من الحرور إلى البـر
د وسيف الردى عليك منيف
ياقليل المقام في هذه الدنيا
إلى كم يغرك الـتـسـويــــف؟
ياطالب الزائل حـــتى مـــتى
قـلـبـك بـالـزائـل مـشغــوف
عجبًا لامرئ يذل لذي الدنيا
ويـكــفـيــه كـل يـوم رغـيـف


إلى هنا انتهت هذه الفوائد المختارة، التي أرجو أن ينفع الله بها كاتبها وناقلها وقارئها وناشرها.
والله أعلم وصلَّى الله وسلَّم على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبه:
مبارك بن خليفة بن محمد العسَّاف.
ليلة الجمعة ٢٠ / ٣ / ١٤٣٩ هـ