إفادة الأنام، بالإجماعات المنقولة في منسك
شيخ الإسلام.
﷽
الحمد لله الذي فرض الحج على عباده، وجعله منارة للتوحيد، ومخالفة
لأهل الشرك والتنديد، وإكثارا من الشكر والتكبير والتحميد، والصلاة والسلام
على خير من لبى بالتوحيد، وأكثر من الشكر والتكبير والتحميد.
وعلى
آله وصحبه الذين حققوا كامل الاتباع والتجريد.
أما بعد:
فإن من خير الأعمال وأجلّها: تقريب العلوم الشرعية، وجمع شتاتها،
لينتفع منها طالبها.
ومن أهم ما يُجمع ويُدوَّن: الإجماعات التي نقلها أئمة الإسلام، وذلك: لأن الإجماع ثالث الأدلة الشرعية، التي يجب العمل بها، وهو يقضي على
تأويل النصوص، والاجتهاد فيها.
ومن هذا المنطلق جمعت الإجماعات التي نقلها شيخ الإسلام، وناصر سنة خير الأنام،
العلامة الإمام: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني -
رحمه الله -؛
كما في منسكه.
والإجماع إذا نقله إمام معتبر، واسع الاطلاع، طويل الباع، فإن نقله معتبر يجب العمل به، مالم يتبين يقينا خطأ النقل.
وشيخ
الإسلام من الأئمة المتبحرين في الأدلة الشرعية، المتفننين في الفنون العلمية.
وقد نقلت هذهِ الإجماعات كما في منسكه، وقد أذكر السابق واللاحق من كلامه أو
السابق فقط، أو اللاحق فقط، على حسب مايقتضيه النقل من البيان والتوضيح.
وقد أقدم للإجماع من أجل أن يُفهم الكلام، ثم أنقل نص كلام شيخ
الإسلام.
وقد اقتصرت على النقول المتعلقة بالحج والعمرة وما يلحق بهما دون سواهما من
الإجماعات التي نُقلت في المنسك؛ وأيضًا: لم أنقل ما صرح فيه بأنه اتفاق الأئمة الأربعة
ونحو ذلك.
ومما
يميز هذه الإجماعات التي في منسك شيخ الإسلام أنه كتبها بعد أن تقدم به العمر
كما ذكر ذلك في مقدمة منسكه، وهذا مما يزيد النقول قوة، إذ إنها كانت بعد زيادة
سعة الإطلاع عنده - رحمه الله -؛ والمنسك موجود في مجموع الفتاوى، في المجلد السادس والعشرين، من
الصفحة ٩٨ إلى الصفحة ١٥٩
فدونكم أيها القارئون لهذه الرسالة، الإجماعات المنقولة.
الإجماع الأول: نقل ابن تيمية الاتفاق على استحباب من مر على
ميقاتين بأن يحرم من الأول، حيث ذكر عن أهل مصر والشام والمغرب أنهم كانوا يحرمون
من رابغ بسبب أن الجحفة صارت خرابا، وقد يحرمون من ميقات المدينة فيكون ميقات
الجحفة أمامهم، فقال - رحمه الله -:
اذا اجتازوا بالمدينة النبوية - كما يفعلونه في هذه الأوقات - أحرموا من ميقات أهل
المدينة، فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق.
فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع.
[مجموع الفتاوى ١٠٠ /٢٦]
الإجماع الثاني: نقل ابن تيمية - رحمه
الله - اتفاق الصحابة على أن النبي ﷺ حج قارنا، خلافا لما توهمه البعض في بعض ألفاظ الصحابة
الذين نقلوا صفة حجة الوداع من كونه مفردا أو متمتعا.
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل
المعرفة بسنته، وباتفاق الصحابة على ذلك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع
تمتعا حل فيه، بل كانوا يسمون القران تمتعا، ولا نقل أحد من الصحابة أنه لما قرن
طاف طوافين وسعى سعيين.
وعامة
المنقول عن الصحابة في صفة حجه ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم،
وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج، كعائشة، وابن عمر، وجابر، قالوا: إنه
تمتع بالعمرة إلى الحج.
[مجموع
الفتاوى ١٠٤ / ٢٦]
الإجماع الثالث: هل يلزم الحاج تليبية
مخصوصة بعينها؟
قال شيخ الإسلام بعد أن
ذكر بعض العبارات:
فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمة، ليس في ذلك عبارة مخصوصة، ولا يجب شيءٌ من
هذه العبارات باتفاق الأئمة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة والصلاة
والصيام، باتفاق الأئمة، بل متى لبى قاصدا للإحرام انعقد احرامه باتفاق المسلمين،
ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء.
[مجموع الفتاوى ١٠٤- ١٠٥ /٢٦]
الإجماع الرابع: هل يصح إحرام من لبس
الثياب؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
والتجرد من اللباس واجب في الإحرام، وليس شرطا فيه، فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك
بسنة رسول الله ﷺ، وباتفاق أئمة أهل العلم، وعليه أن ينزع اللباس المحظور.
[مجموع الفتاوى ١٠٨ /٢٦]
الإجماع الخامس:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: والسنة أن يحرم في إزار ورداء، سواء كان
مخيطين أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة.
[مجموع الفتاوى ١٠٩ / ٢٦]
الإجماع السادس: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
يجوز لبس كل ماكان من جنس الإزار والرداء، فله أن يلتحف بالقباء، والجبة، والقميص،
ونحو ذلك، ويتغطى به باتفاق الأئمة عرضا، ويلبسه مقلوبا، ويجعل أسفله أعلاه،
ويتغطى باللحاف وغيره، ولكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة.
[مجموع الفتاوى ١١٠ /٢٦]
الإجماع السابع: قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وليس له أن
يلبس القميص لا بكُمٍ ولا بغير كُمٍ، وسواء أدخل فيه يده، أو لم يدخلهما، وسواء
كان سليما أو مخروقا، وكذلك لا يلبس الجبة، ولا القباء الذي يدخل يده فيه، وكذلك
الدرع الذي يسمى: (عرق جين) باتفاق الأئمة.
[مجموع الفتاوى ١١١/ ٢٦]
قلتُ: والفرق بين الاتفاقين فيما يتعلق بالقميص
والقباء والجبة ونحوه، أن الاتفاق الأول على الالتحاف بها على هيئة الإزار
والرداء، والثاني إذا لبس على حقيقة لبسه، والله أعلم.
الإجماع الثامن: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
وأما الرأس فلا يغطيه لا بمخيط ولا غيره، فلا يغطيه بعمامة، ولا قلنسوة، ولا
كوفية، ولا ثوب يلصق به، ولا غير ذلك؛ وله أن يستظل تحت السقف والشجر، ويستظل في
الخيمة، ونحو ذلك باتفاقهم.
[مجموع الفتاوى ١١١ -١١٢/ ٢٦]
الإجماع التاسع :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -: لو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه
جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضا.
[مجموع الفتاوى ١١٢/ ٢٦]
الإجماع العاشر
والحادي عشر:
نقل شيخ الإسلام الاتفاق على جواز تغطية الرجل يديه ورجليه، والاتفاق على عدم جواز
لبس البرقع للنساء، وذلك في معرض تقريره عدم التفريق بين لبس المرأة على وجهها
مايلاصقه، أو ما لا يلاصقه.
حيث قال - رحمه الله -:
وأزواجه ﷺ كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل
العلم عن النبي ﷺ أنه قال: "إحرام المرأة في وجهها" وإنما هذا قول بعض السلف
لكن النبي ﷺ نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين، كما نهى المحرم أن يلبس
القميص، والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة، والبرقع أقوى
من النقاب فلهذا ينهى عنه باتفاقهم.
[مجموع الفتاوى ١١٢ -١١٣/ ٢٦]
الإجماع الثاني عشر:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
وله - أي المحرم - أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق.
[مجموع الفتاوى ١١٦ / ٢٦]
الإجماع الثالث عشر
والرابع عشر:
قال - رحمه الله -: وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره، إلاَّ هذان
الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرم كما يسمي الجهال، فيقولون: حرم المقدس، وحرم
الخليل، فإن هذين ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه: حرم مكة؛ وأما
المدينة فلها حرم عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبيﷺ، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلاَّ في
"وج" وهو واد في الطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم.
[مجموع الفتاوى ١١٧ - ١١٨ / ٢٦]
قلتُ: فتكون المسألة هكذا:
- مكة حرم بالإجماع.
- المقدس والخليل وغيرهما ليسا بحرم بالإجماع.
- المدينة حرم عند الجمهور.
- وداي وج ليس حرما عند الجمهور.
الإجماع الخامس عشر:
بعد أن ذكر شيخ الإسلام أن الحجر الأسود يقبل ويستلم، والركن اليماني يستلم فقط من
دون تقبيل، قال - رحمه الله -:
وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وسائر مافي الأرض من المساجد، وحيطانها،
ومقابر الأنبياء، والصالحين، كحجرة نبيناﷺ، ومغارة إبراهيم، ومقام نبيناﷺ الذي كان يصلي فيه، وغير ذلك من مقابر الأنبياء
والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فلا تستلم ولا تقبل، باتفاق الأئمة.
[مجموع الفتاوى ١٢١ / ٢٦]
الإجماع السادس عشر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وكان النبيﷺ يختم طوافه بين الركنين بقوله: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" كما كان يختم سائر دعائه بذلك، وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق
الأئمة.
[مجموع الفتاوى ١٢٢ - ١٢٣ / ٢٦]
الإجماع السابع عشر:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وإن لم يمكنه الطواف ماشيا فطاف راكبا أو محمولا
أجزأه بالاتفاق.
[مجموع الفتاوى ١٢٥ / ٢٦]
الإجماع الثامن عشر:
قال - رحمه الله -: فلا يجوز لحائض أن تطوف إلاَّ طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق
العلماء.
[مجموع الفتاوى ١٢٦ - ١٢٧/ ٢٦]
الإجماع التاسع عشر:
قال - رحمه الله -: ولا صلاة عقيب الطواف بالصفا والمروة، وإنما الصلاة عقيب
الطواف بالبيت بسنة الرسولﷺ، واتفاق السلف والأئمة.
[مجموع الفتاوى ١٢٨ / ٢٦]
الإجماع العشرون:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
وأما الإيقاد فهو بدعة مكروهة باتفاق العلماء؛ وإنما الإيقاد بمزدلفة خاصة بعد
الرجوع من عرفة، وأما الإيقاد بمنى أو عرفة فبدعة أيضًا.
[مجموع الفتاوى ١٢٩ / ٢٦]
قلتُ: ولم يتبين لي طريقة الإيقاد المتفق على كونه
بدعه، ولا الإيقاد الوارد بمزدلفة، وماهو وجه التفريق بين الإيقاد هنا وهناك، فهل
هو إيقاد للنار من أجل الظلام، أو من أجل طبخ طعام، أو من أجل تدفئة!
فلو كان كذلك فما وجه البدعة والسنة فيه؟!
ولم أجد ما يوضح ذلك في الكتب حسب اطلاعي القاصر، ووجدت الشيخ عبد الكريم الخضير
في شرحه لمنسك شيخ الإسلام قد استشكل هذهِ المسألة كما استشكلتُ، والمسألة تحتاج
إلى بحث وتحرير، ومن علم حجة على من لم يعلم، ومن عنده فضل علم فلا يبخل بالإفادة، ولكن على كل حال هي بدعة في وقت الشيخ - رحمه الله - اتفق العلماء على كونها بدعة، ولكن الاستشكال وجه البدعة فقط.
وبعد ثلاث سنوات من كتابة هذا المقال، تبيّن لي وجه البدعة المذكورة،
وذلك بعد قراءتي لكتاب العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله - : (جبل إلال بعرفات) فقد
ذكر كلامًا لأهل العلم أن بدعتهم بالايقاد هي الاحتفال، والتشبه بفعل المشركين،
ويراجع الكتاب مع المصادر التي ذكرها فيه صفحة (٣٧ - ٣٩) وصفحة (٦٥ - ٦٨)
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا
الله.
١٢ / ١١ / ١٤٤٠هـ
.
الإجماع الحادي
والعشرون:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فإذا اشترى الهدي من عرفات وساقه إلى منى فهو هدي
باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشترى
الهدي من منى وذبحه فيها، ففيه نزاع؛ فمذهب مالك أنه ليس بهدي، وهو منقول عن ابن
عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي، وهو منقول عن عائشة.
[مجموع الفتاوى ١٣٧ /٢٦]
الإجماع الثاني
والعشرون:
نقل شيخ الإسلام الاتفاق على أن الصحابة المتمتعين طافوا وسعوا أولا، ونقل الخلاف
في سعيهم مرة ثانية بعد الإفاضة، فقال - رحمه الله -:
وقد اختلفوا في الصحابة المتمتعين مع النبيﷺ مع اتفاقهم أنهم طافوا أولا بالبيت وبين الصفا والمروة؛
ولما رجعوا من عرفة قيل: إنهم سعوا أيضًا بعد طواف الإفاضة، وقيل: لم يسعوا.
[مجموع الفتاوى ١٣٨ /٢٦]
الإجماع الثالث
والعشرون:
قال شيخ الإسلام عن الذي يسلم على النبيﷺ عند زيارته:
واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة.
[مجموع الفتاوى ١٤٦ / ٢٦]
الإجماع الرابع
والعشرون:
نقل شيخ الإسلام الإجماع على النهي عن الدعاء عند حجرة النبيﷺ؛ فقال - رحمه الله تعالى -:
ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن ذلك منهي عنه باتفاق الأئمة.
[مجموع الفتاوى ١٤٧ / ٢٦]
الإجماع الخامس
والعشرون:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كلامه عن زيارة القبور، والصلاة
عندها: وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين،
بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين أفضل من الصلاة
في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور
إما محرمة أو مكروهة.
[مجموع الفتاوى ١٤٨ / ٢٦]
الإجماع السادس
والعشرون:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد
الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبيﷺ، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ بل هو
من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها.
[مجموع الفتاوى ١٤٩ / ٢٦]
الإجماع السابع
والعشرون:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصى، ولا الوقوف عند
قبر أحد، لا من الأنبياء، ولا من المشايخ، ولا غيرهم؛ باتفاق المسلمين.
[مجموع الفتاوى ١٥٠ / ٢٦]
وبهذا النقل تنتهي هذهِ الدرر المنثورة،
والفوائد المحبورة، جمعت شتاتها في هذه الرسالة المنشورة، أرجو من الله ثوابها،
وأطلب منه غنمها، لي ولمن نقلت عنه ومن قرأها ونشرها؛
فاللهم لا تحرمنا أجرك، وواسع فضلك، وجود عطائك، وكريم عفوك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه:
مبارك بن خليفة بن محمد العساف.
الاثنين ٣ / ١٢ / ١٤٣٧هـ