الجمعة، 8 ديسمبر 2017

إفادة الفضلاء، بلطائف ابن رجب عن فصل الشتاء.

إفادة الفضلاء، بلطائف ابن رجب عن فصل الشتاء. 



أما بعد.

فإنَّ من آيات الله الدَّالة على ربوبيته، واستحقاقه للعبادة، تغيّر الأحوال، وتنوّع الفصول، وفي كل شيءٍ له آيةٌ... تدل على أنَّه واحد.
وفي هذه الرسالة جمعتُ فوائد مختصرة عن الشتاء من (المجلس الثالث: ذكر فصل الشتاء) من كتاب الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: (لطائف المعارف، فيما لمواسم العام من الوظائف.)
وقد جمعتُها ليعم نفعها، وينتشر خيرها، رجاء غنم الثواب، والسلامة من غرم العقاب.
وقد أنقل بعض الفوائد مُلخصة، وقد أعلق يسيرًا حين أرى المصلحة.
وهذه هي الفوائد بين يديك أيها القارئ الكريم.

١ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: الشتاء ربيع المؤمن:
خرّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبيﷺ
قال: الشتاء ربيع المؤمن. وخرجه البيهقي وغيره وزاد فيه: طال ليلُه فقامه، وقصر نهارُه فصامه.

قلتُ: هذا الحديث مختلف في ثبوته فمنهم من حسنه كالهيثمي في مجمع الزوائد، ومنهم من ضعفه كالألباني.
ولكن معناه صحيح، وهو مروي بالمعنى، وبألفاظ قريبة، عن غير واحد من السلف.

قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنَّه يرتع فيه  في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه؛ كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات.


٢- قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
فإنَّ المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كُلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإنَّ نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام.
وفي المسند والترمذي عن النبي ﷺ قال: الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة.
وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء.
ومعنى كونها غنيمة باردة أنَّها حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوًا صفوًا بغير كلفة.

قلتُ: الحديث السابق صححه الألباني من حديث عامر بن مسعود.

٣ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النَّفسُ حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن، وقد أخذت نفسُه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه، مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه، وراحة بدنه.

٤ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
ومن كلام يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.

ويروى عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: قال: مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.
وروي عنه مرفوعا ولا يصح رفعه.

وعن الحسن قال: نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه.

وعن عبيد بن عمير أنَّه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا.


٥ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف.


٦ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
القيام في ليل الشتاء يشق على النفوس من وجهين:
أحدهما: من جهة تألم النَّفس بالقيام من الفراش في شدة البرد.
والثاني: بما يحصل إسباغ الوضوء في شدة البرد من التألم.
قلتُ: وفي زماننا قد قلّ التألم من شدة البرد داخل البيوت، فيستطيع القيام في دفء مكان، وإسباغ وضوء بلا كلفة، لوجود سخانات تسخن الماء، فلم يبقَ سوى العجز والكسل، والله المستعان؛ فالَّلهم إنَّا نعوذ بك من العجز والكسل، ونسألك السداد في العمل


٧ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
وإسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال.

٨ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
إسباغ الوضوء في شدة البرد من أعلى خصال الإيمان.


٩ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
كان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل: يافلان، ويا فلان، ويا فلان، قوموا فتوضؤوا وصلوا هذا الليل، وصيام هذا النهار أهون من شرب الصديد ومقطعات الحديد غدا في النار، الوحا الوحا النجا النجا.


١٠ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
يشرع دفع أذاه - البرد - بما يدفعه من لباس وغيره، وقد امتن الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام وأوبارها وأشعارها مافيه دفء لهم؛ قال تعالى: ﴿وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ وَمَنافِعُ وَمِنها تَأكُلونَ
وقال تعالى:
﴿وَمِن أَصوافِها وَأَوبارِها وَأَشعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حينٍ﴾.

١١ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا حضر الشتاء تعاهدهم، وكتب لهم بالوصية إنَّ الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإنَّ البرد عدو، سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه.

قال ابن رجب معلِّقًا:
وإنَّما كان يكتب عمر إلى أهل الشام لما فتحت في زمانه، فكان يخشى على من بها من الصحابة وغيرهم ممن لم يكن له عهدٌ بالبرد أن يتأذى ببرد الشام، وذلك من تمام نصيحته، وحسن نظره، وشفقته وحياطته لرعيته.


١٢ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
ليس المأمور به أن يتقي البرد حتى لا يصيبه منه شيءٌ بالكلية، فإنَّ ذلك يضر أيضًا؛ وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد بالكلية حتى لا يحس بهما بدنه، فتلف باطنه، وتعجل موته.
فإنَّ الله بحكمته جعل الحر والبرد في الدنيا لمصالح عباده، فالحر لتحلل الأخلاط، والبرد لجمودها، فمتى لم يصب الأبدان شيءٌ من الحر والبرد تعجل فسادها، ولكن المأمور به اتقاء ما يؤذي البدن من الحر المؤذي والبرد المؤذي، المعدودان من جملة أعداء بني آدم.

قلتُ: وهذه فائدة طبِّيَّة مهمَّة، وقد ذكر نحوها غير واحد من أهل العلم وأهل الخبرة.

١٣ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
قال بعض السلف: إنَّ الله وصف الجنة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء، فقال:
﴿في سِدرٍ مَخضودٍ ۝ وَطَلحٍ مَنضودٍ ۝ وَظِلٍّ مَمدودٍ ۝ وَماءٍ مَسكوبٍ ۝ وَفاكِهَةٍ كَثيرَةٍ﴾.
وقد قال الله تعالى في صفة الجنة: ﴿مُتَّكِئينَ فيها عَلَى الأَرائِكِ لا يَرَونَ فيها شَمسًا وَلا زَمهَريرًا﴾ فنفى عنهم شدة الحر والبرد.
قال قتادة :علِم الله أنَّ شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعًا.


١٤ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
وقال بعض السلف: البرد عدو الدين، يشير إلى أنه يُفتّر عن كثير من الأعمال، ويثبط عنها، فتكسل النفوس بذلك، وقال بعضهم: خلقت القلوب من طين، فهي تلين في الشتاء كما يلين الطين فيه.

قلتُ: قد يُشكل تسمية الشتاء ربيعًا لما فيه من الطاعات، وتسميته عدوا للدين لتفتيره عن العبادات، ولكن الجمع بينهما:
أن الله عز وجل جعل الشتاء ربيعًا للمؤمن الذي جدّ واستغل قصر النهار وطول الليل، ولم يمنعه وجود بعض المشاق في الشتاء عن القيام بما أحب الله، وهذا لا ينافي كون الشتاء مفتّرا لمن ركن إلى برودته، واستسلم لبعض مشقته، فالنفوس على حسب مايعودها عليه أصحابها. 

١٥ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
الإيثار في الشتاء للفقراء بما يدفع عنهم البرد له فضل عظيم.
خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد فرأى رجلًا عاريًا فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض الشام في منامه أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه، فقدم المدينة فقال: دلوني على صفوان، فأتاه فقص عليه ما رأى.)

قلتُ: والمنامات لا تُبنى عليها أحكام، ولكنَّها مبشّرات مؤنّسات.


١٦ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
ومن فضائل الشتاء أنَّه يذكر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها، وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيﷺ قال: إذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم! اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم: إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته، قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده.)
قلتُ: هذا الحديث ضعفه السخاوي والعجلوني، وقال الألباني: منكر.


١٧ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
في الحديث الصحيح عن النبيﷺ: إنّ لجهنم نفسين، نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فأشد ماتجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ماتجدون من الحر من سمومها.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -قال: يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر.

١٨ - قال ابن رجب - رحمه الله -:
قال تعالى: ﴿هذا فَليَذوقوهُ حَميمٌ وَغَسّاقٌ
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده، وقال مجاهد - رحمه الله -: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده، وقيل: إن الغساق: البارد المنتن؛ أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله وكرمه.

١٩ - قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -:
يامن تتلى عليه أوصاف جهنم ويشاهد تنفُّسها كل عام حتى يحس به ويتألم، وهو مُصِرٌّ  على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمام من يندم، ألك صبّرٌ على سعيرها وزمهريرها؟ قل وتكلم، ماكان صلاحك يرجى والله أعلم.

كم يكون الشتاء ثم المصيف
وربيعٌ يمضي ويأتي الخريف
وارتحال من الحرور إلى البـر
د وسيف الردى عليك منيف
ياقليل المقام في هذه الدنيا
إلى كم يغرك الـتـسـويــــف؟
ياطالب الزائل حـــتى مـــتى
قـلـبـك بـالـزائـل مـشغــوف
عجبًا لامرئ يذل لذي الدنيا
ويـكــفـيــه كـل يـوم رغـيـف


إلى هنا انتهت هذه الفوائد المختارة، التي أرجو أن ينفع الله بها كاتبها وناقلها وقارئها وناشرها.
والله أعلم وصلَّى الله وسلَّم على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبه:
مبارك بن خليفة بن محمد العسَّاف.
ليلة الجمعة ٢٠ / ٣ / ١٤٣٩ هـ