الاثنين، 1 يناير 2018

وقفات مع ارتفاع الأسعار.

وقفات مع ارتفاع الأسعار.




أما بعد:


لاشك أنَّ ارتفاع الأسعار من المصائب التي تُكدر على الانسان عيْشَه، وتُضيق عليه رزقَه، وهذه وقفاتٌ مع هذه الارتفاعات، أرجو من الله نفعها.

الوقفة الأولى: نقص الأموال من البلاء، والواجب الصبر.

قال تعالى: ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرينَ ۝ الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ ۝ أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧]
فلا شك أنَّ من البلاء: نقص الأموال كما ذكر الله عز وجل في الآية السابقة، ومقابلة هذه المصائب تكون بالصبر والاسترجاع، كما أمر الله عز وجل في الآية السابقة.

الوقفة الثانية: أن الجزاء من جنس العمل.

إنَّ هذه المصائب جاءتنا بسبب ذنوبنا ومعاصينا، فإنَّه مانزل بلاءٌ إلَّا بذنب، ولا رُفع إلَّا بتوبة.

قال تعالى:﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ لِيُذيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرجِعونَ﴾ [الروم: ٤١]

وقال تعالى:
﴿وَما أَصابَكُم مِن مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَت أَيديكُم وَيَعفو عَن كَثيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠]

وقال تعالى:
﴿أَوَلَمّا أَصابَتكُم مُصيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِثلَيها قُلتُم أَنّى هذا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [آل عمران: ١٦٥]

فهذه الآيات تدل على أن الذنوب والمعاصي سبب المصائب، وهي ميراثها، وعاقبتها، فهل نحن متعظون؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كلامه عن ارتفاع الأسعار:
(فالغلاء بارتفاع الأسعار، والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سبباً في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سبباً في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار، قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس)
(الفتاوى ٥٢١ / ٨)

ومن جملة المعاصي التي لها تعلق بالأرزاق، ووقع فيها كثيرٌ من النَّاس: الإسرافُ والتبذيرُ في الولائم والحفلات، والمباهاةُ والتفاخرُ بنعم الله، وغير ذلك مما وقع فيه كثير من الناس.
﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَت أَيديكُم وَأَنَّ اللَّهَ لَيسَ بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ﴾ [الأنفال: ٥١]
فإن نسي العبد مافعل، فإن ماقدمه سيواجه عاقبته، فهو محفوظ في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقد تكون عقوبته عاجلة، وقد تكون متأخرة، وقد تكون في العاجلة والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
فالواجب الرجوع إلى الله، والتوبة إليه، وعدم التمادي في معاصيه.

الوقفة الثالثة: المصائب تقابل بالتوبة والتضرع، ولا تقابل بالسخرية والتنكيت.

إن من أعظم المصائب غفلة القلوب عن الحكمة من وقوعها، وهي التي بيَّنها الله في كتابه، وهي: التوبة والرجوع إليه، والتضرع بين يديه.
ومن قسوة القلوب: مقابلة المصائب بمقاطع الضحك والسخرية، ونشر النكت، والتندر بالواقع.
وهذا خلاف المأمور! قال تعالى:
﴿فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا وَلكِن قَسَت قُلوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ [الأنعام: ٤٣]
فالواجب الدعاء والتضرع والرجوع إلى الله، وبذلك أمر الرسولﷺ.
جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال له: يا رسول الله سعِّر لنا ، فقال: بل ادعوا الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله سعِّر لنا ، فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة.)
رواه أبو داود من حديث أبي هريرة.

الوقفة الرابعة: لابد من الصبر في المنشط والمكره وفي الأثرة.

إن المسلم مأمور بالصبر عند الاستئثار بالمال، ووقوعه عليه، فقد جاء في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -:
بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا ، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ ، قَالَ : إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ.)
رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وقال ﷺ:
إنَّها ستكون بَعدي أثرةٌ وأمورٌ تُنْكِرُونَها !قَالوا: يا رسولَ اللهِ، فمَا تَأمرنا؟
قال: تؤدُّونَ الحقَ الَّذي عَلَيكُم ، وَتَسْألونَ اللهَ الَّذي لكُم.)
متفق عليه.

وقالﷺ:
إنَّكُم سَتَلقَونَ بَعْدِي أَثرةً ، فاصْبِرُوا حتَّى
تَلقَونِي عَلىٰ الحَوض.)
متفق عليه.

فحصول الأثرة، ووقوع الضيق في الرزق، لا يجعلنا ننزع يد الطاعة، ونقع فيما وقع فيه من حولنا، فحلت عليهم النكبات، وتأزمت عليهم الأزمات!
فالواجب الصبر مع الدعاء والتوبة.
أقول ذلك لأنَّنا نرى من يطالب صراحةً أو يلمح تلميحًا إلى الخروج احتجاجًا، والمظاهرة اعتراضًا، وكل ذلك خلاف ما أُمرنا به، بل هذا كالهارب من الرمضاء إلى النار.

الوقفة الخامسة: وقوع المصيبة لا ينسينا النِّعم الكثيرة.

إنَّه مع وقوع مثل هذه المصائب ينسى المرء ماعنده من النعم، ويغفل عن كثرة الآلاء والمنن، فنحن نعيش في خير ولا زلنا، وإن تكدرت بعض نعمنا، فهذا لا ينسينا نعمًا شتى، لا نحصيها عدًّا.
من أعظمها: الإيمان والأمان، والتوحيد والاطمئنان.
فواجب شكر الموجود، والله يأتينا بالمفقود؛ قال تعالى:
﴿وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]


الوقفة السادسة: تعليق القلوب بالله.

يجب أن تُعلق القلوب بالله في جلب الأرزاق، ودفع الآفات ورفعها، فالله عز وجل تكفل برزق عباده، قال تعالى:
﴿وَما مِن دابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلّا عَلَى اللَّهِ رِزقُها وَيَعلَمُ مُستَقَرَّها وَمُستَودَعَها كُلٌّ في كِتابٍ مُبينٍ﴾ [هود: ٦]
وقال ﷺ: لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها.
فرزقك محفوظ، وفي الكتاب مكتوب، وماعليك سوى التوكل على الله وبذل الأسباب المشروعة، وإحسان الظن بالله، فهو الرزاق ذو القوة المتين، في كل وقت وحين.
قيل لأبي حازم سلمة بن دينار - رحمه الله -: « يَا أَبَا حَازِمٍ أَمَا تَرَى قَدْ غَلَا السِّعْرُ، فَقَالَ: وَمَا يَغُمُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ إِنَّ الَّذِي يَرْزُقُنَا فِي الرُّخْصِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُنَا فِي الْغَلَاءِ »
 (حلية الأولياء ٢٣٩ / ٣)


فهذه وقفاتٌ أسأل الله أن ينفع بها، وأسأله سبحانه أن يدفع ويرفع عنا الغلا والوباء والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

🖋كتبه:
مبارك بن خليفة بن محمد العساف.

الاثنين ١٤ / ٤ / ١٤٣٩ هـ