((أوضح الواضحات))
الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرف
المرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعد.
اعلموا -أرشدكم الله لطاعته- أننا لم
نخلق عبثًا، ولم نترك هملاً، بل خُلقنا من أجل غاية عظيمة، وهي: عبادة الله وحده
لا شريك له.
وأرسل اللهُ لنا من أجل هذه الغاية
رسولاً، وأنزل كتابًا، فأقام اللهُ الحجة، وأتم النعمة، فله الحمدُ والمنةُ.
أرسل رسوله، وأنزل كتابه، نذارة وبشارة، وحجة وبلاغًا
وبيانًا.
قال تعالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾
وقال تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِ
وَمَن بَلَغَ ۚ﴾
وقال تعالى:﴿ هَٰذَا بَلَاغٌ
لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
فأرسل رسوله داعية إلى التوحيد، كما أرسل قبله من المرسلين،
دعاة إلى توحيد رب العالمين، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
ۖ ﴾
فأدى الرسولُ ﷺالأمانة، وبلغ
الرسالة،
ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فأقام التوحيد، وقمع الشرك والتنديد.
ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فأقام التوحيد، وقمع الشرك والتنديد.
صلى اللهُ عليه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
وجعل اللهُ التوحيد في كتابه أوضح الواضحات، وأبين البينات،
وأقام على ذلك الأدلة القاطعات، ولم يجعله ملتبسًا من الملتبسات.
وذلك؛ لأن التوحيد أصل الدين، وأساس الملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
-رحمه اللهُ تعالى ـ:
(وقد بين اللهُ هذا التوحيد في كتابه،
وحسم مواد الإشراك به، حتى لا يخاف أحد غيره، ولا يرجو غيره، ولا يتوكل إلاَّ
عليه.)
[مجموع الفتاوى 1 / 135]
وقال الإمامُ المجددُ محمد بن عبد الوهاب - رحمه اللهُ - في
رسالته"الأصول الستة":
من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة
على قدرة الملك الغلاب:
ستة أصول بينها اللهُ تعالى بيانا
واضحاً للعوام، فوق مايظنه الظانون، ثم بعد ذلك غلط فيها كثير من أذكياء العالم،
وعقلاء بني آدم، إلاَّ أقل القليل.
الأصل الأول:
إخلاص الدين لله وحده لا شريك له،
وبيان ضده الذي هو: الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى،
بكلام يفهمه أبلد العامة..الخ)
وقال الإمامُ عبدالله أبابطين
- رحمه الله -:
(فإذا تبين أن هذا الأصل هو أصل
الأصول، علمنا يقينًا أن الله سبحانه وتعالى، لم يترك هذا الأمر ملتبسًا، بل لابدّ
من أن يكون بينا واضحًا لا لبس فيه ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على
كل مكلف، ولا يجوز فيه التقليد.)
[الدرر السنية 12 / 114]
فالتوحيدُ في القرآن واضح بيّن، كالشمس في نحر الظهيرة.
فالحق شمس والعيون نواظر..لا تختفي إلاَّ على العميان.
وكذلك التوحيدُ لا يخفى إلاَّ على أعمى البصيرة.
والتوحيدُ حق الله على العبيد،
لا يعذر أحد في تركه، ولا يجوز أن يقلد فيه.
قال الإمامُ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه اللهُ-:
(وليس مع ما بينه اللهُ من دينه الذي
دعت إليه رسله، من أولهم إلى آخرهم عذرٌ لأحد؛
والقرآنُ حجة الله على الأمة، مشركهم
وكتابيهم، كما قال تعالى:﴿ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ﴾
[الأنعام: 19]
وقال تعالى:﴿هَٰذَا بَلَاغٌ
لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ﴾ [إبراهيم:52]
ولم يستثن أحدًا من الناس.)
[الدرر السنية 11 / 549]
وأخرج ابن جرير في تفسيره قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: (القرآن
على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لايعذر أحد بجهالته، وتفسير
لا يعلمه إلاَّ العلماءُ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله.)
ولا شكَّ أن التوحيد داخل دخولاً
أوليًا في الوجه الذي لا يعذر فيه أحدٌ بجهالته.
ومن الآيات القرآنية العظيمة، التي
أظهر اللهُ بها التوحيد، وأبطل بها الشرك والتنديد: قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ
مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا
مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13، 14].
قوله سبحانه:﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ﴾:
أي له الملك الكامل التام.
﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن
قِطْمِيرٍ﴾:
كل مادون الله داخل في هذا العموم سواءً كان ملكًا، أو
نبيًا، أو وليًا، أو غير ذلك، فإنهم لا يملكون قطميرا أو مايساويه من ملك السموات
والأرض.
والقطمير هو: اللفافة
التي تكون على نواة التمر.
فإذا كانوا ما يملكون من قطمير، فضلاً عما فوقه، فكيف
يُدعون من دون الله؟!
ويُطلب منهم شيئًا لا يملكونه ولا يستطيعونه!
فمن له الملك التام الكامل، السميع القادر، فإنه المستحق
للعبادة؛ وهو الله سبحانه وتعالى.
أما هؤلاء المعبوادت من دون الله فهي كما قال الله تعالى:
﴿إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾
نفى اللهُ عنهم السماع، فهل يستجيب من لا يسمع؟!
وعلى فرض أنهم يسمعون فإنهم لا يستطيعون الإجابة، لعدم
قدرتهم.
﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾
فمن كانت هذه حالته، فهل يستحق أن يعبد من دون الله؟!
ثم أخبر اللهُ ﷻ أن المعبودات تكفر بمن عبدها، وسمى دعاء
غيره شركًا، فقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ﴾
ثم قال الحق سبحانه: ﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾فالخبيرُ هو ربنا سبحانه
وتعالى، يعلم الأمور على حقيقتها، وماتؤول إليه وتصير.
فالخبيرُ ﷻ هو الذي أخبرنا أن الآلهة تكفر بمن عبدها يوم
القيامة، وسمى من دعا غيره مشركًا.
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾
فاللهمّ آمنا وصدقنا، فاكتبنا من الشاهدين، ومن عبادك
الموحدين.
فأين عباد القبور، عن هذه الآيات العظيمة، التي توضح
التوحيد، وتبطل الشرك؟!
فهذه الآيات تبطل عبادتهم لأهل القبور.
فهؤلاء المعبودون: أموات رفات، لا يسمعون الأصوات، ولو
كانوا أحياء ماسمعوا الأصوات، إلاّ بقدر محدود، فكيف وهم أموات، فلا يسمعون الداعي
وإن كان قريباً، فضلاً عن بعيد المسافات!
فلا فرق بين عباد القبور اليوم، وبين إخوانهم عباد مناة
والعزى واللات!
فلا يغيث اللهفات، ويجيب الدعوات، مع اختلاف الأصوات، وتنوع
الحاجات، وتعدد اللغات، إلاَّ رب الأرض والسماوات.
سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا، عما يفعل أعداء التوحيد، أهل
الشرك والتنديد.
فما أوضح التوحيد!
وما أكثر المشركين!!
فالحمد لله أولاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، علىٰ نعمة
التوحيد والسنة.
فمن رأى هؤلاء المشركين، يقعون في الشرك، مع وضوح الآيات،
كثُر لربه حمدُه، وعظُم من الشرك خوفُه.
فاللهمّ على التوحيد ثبتنا.
يقول الإمامُ المجددُ محمد بن عبد الوهاب - رحمه اللهُ - في
"كشف الشبهات":
(معرفة المؤمن أن نعمة الله عليه بالتوحيد
توجب عليه الفرح به، والخوف من سلبه، إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك
بالله الذي قال الله فيه:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ﴾
[النساء: 48]
وعرفت دين الله، الذي أرسل به الرسل،
من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل اللهُ من أحد سواه. وعرفت ما أصبح غالب الناس
فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ﴾
وأفادك أيضًا: الخوف العظيم؛
فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة
يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها
تقربه إلى الله تعالى، كما ظن المشركون، خصوصاً إن ألهمك الله ما قص على قوم موسى،
مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين:
﴿اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ﴾ [الأعراف: 138]
فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك
من هذا وأمثاله.)
قلتُ: ولو صدق هؤلاء المشركون، من عباد القبور
وإخوانهم، في طلب الحق والهداية، لكانوا جديرين بالهداية، لكنهم زاغوا فأزاغ الله
قلوبهم.
يقول الإمامُ عبدالله أبابطين
-رحمه اللهُ -: (فإذا علم اللهُ من
العبد الصدق في طلب الحق، وترك التعصب، ورغب إلى الله في سؤال هدايته الصراط
المستقيم، فهو جدير بالتوفيق؛ فإن على الحق نورًا، لا سيما التوحيد، الذي هو أصل
الأصول، الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو توحيد الألوهية، فإن أدلته
وبراهينه في القرآن ظاهرة، وعامته إنما هو تقرير هذا الأصل العظيم.)
[ الدرر السنية 12 / 106-107]
لكنهم ماصدقوا مع ربهم، فوقعوا في شبكة الشرك، فلم ينفعهم
القرآن، وإن جودوا التلاوة، وأحسنوا القراءة، حجبت قلوبهم عن فهم كتاب الله، نعوذ
بالله من الخذلان.
يقول الإمامُ عبدالرحمن بن حسن آل
الشيخ - رحمه اللهُ -:
فإنَّ المشرك أعمى أصم لا يعرف الحق،
ولا يهتدي إلىٰ أدلته، كما قال تعالى ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا
عَامِلُونَ﴾[المؤمنون:63]
وقال تعالى ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
حِجَابًا مَسْتُورًا ، وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ
وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾[الإسراء: 45، 46])
[الدرر السنية 11/ 412]
ويقول الإمامُ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ -
رحمه الله -:
(فالعلم والكتاب إذا لم يخلص إلى
القلوب، فهو حجة على ابن آدم)
[الدرر السنية 12 / 190]
والأعظم من هذا قوله تعالى عن المشركين:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ
يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾
وقوله تعالى: ﴿ لهُمْ قُلُوبٌ لَّا
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا
يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ
هُمُ الْغَافِلُونَ﴾
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾
طبع الله على قلوبهم، نعوذ بالله من حالهم ومآلهم.
فما أوضح التوحيد، وما أكثر الضالين عنه!
لا إله إلاَّ الله، علمًا و يقينًا، صدقًا ومحبة، إخلاصًا
وانقيادًا وقبولاً. فاللهمّ علمنا وفهمنا، وعلى التوحيد أحينا وأمتنا، برحمتك يا
أرحم الراحمين.
وصلى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
وكتبه:
مبارك بن خليفة العساف.
مغرب السبت 15 محرم 1436هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق